“سيف القدس” تؤجل أيَّ عدوانٍ إسرائيليٍّ جديدٍ على لبنان
معركة “سيف القدس” فاجأت الاحتلال الإسرائيلي، وجعلته يستجدي وقف إطلاق النّار بعد أن وصلت صواريخ المقاومة إلى مستوطناته وكبّدته خسائر مادية بلغت خلال أحد عشر يوماً 2.14 مليار دولار وفق التقديرات الأولية، أي أكثر من كلفة الأضرار التي تكبدها خلال 51 يوماً في عدوان 2014. فالتطوّر النوعي في صواريخ المقاومة، سواء في لبنان أم في فلسطين المحتلة، كرّس معادلة توازن مع التّفوق الجوّي للطائرات الحربية الإسرائيلية، وبات معلوماً لدى قادة الاحتلال أنّ هذه الصواريخ قادرةٌ على إلحاق أضرارٍ موجعة بالمستوطنات وبقوات الجيش.
إسرائيل تحسب ألف حساب بعد “سيف القدس“
في مقالٍ له يقول الكاتب ريتشارد سيلفرستاين إن “حماس أطلقت أكثر من 4000 قذيفة صاروخية خلال 11 يومًا من القتال. وهذا ارتفاع كبير في معدل القصف مقارنة بحرب غزة 2014، عندما أطلقت حماس 4500 قذيفة صاروخية خلال 50 يومًا. وما يثير القلق تمامًا هو تحسين جودة ترسانة حماس. في الصراع الأخير، كانت قادرة على إطلاق المقذوفات إلى داخل “إسرائيل” أكثر من ذي قبل. كما استخدمت حماس ما يسمى بـ “الطائرات الانتحارية بدون طيّار” والتي، على عكس صواريخها، يمكن توجيهها إلى أهداف محدّدة”.
ويضيف: “هذا جزءٌ من نمطٍ يتطور عبر المنطقة. فحركة أنصار الله في اليمن استخدمت صواريخ وطائرات بدون طيار متطورة بشكلٍ متزايدٍ ضد المملكة العربية السعودية، وكذلك المقاومة في العراق، ضد القوات الأميركية”، مشيراً إلى أنّ المخزون الأكبر والأكثر تقدمًا إلى حدٍّ بعيدٍ هو لدى حزب الله اللبناني، والذي يتضمن صواريخ دقيقةَ التوجيه، بالإضافة إلى صواريخ قد يتم إطلاقها يوماً ما من طائرات بدون طيار بعيدة المدى”.
وعليه، تُقرّ إسرائيل بتنامي قدرات حزب الله العسكرية، لا وبل تتخوّف منها، ما يشكّل رادعاً يمنعها من أن تخطو نحو حربٍ معه، في وقت يعيد فيه جنرالاتها وقادتها العسكريين تقييم الفشل العسكري والاستخباري الذي كُشف للعلن والأخطار الأمنية المحدقة بالكيان من كلّ حدبٍ وصوب، بالتزامن مع ازدياد حدّة الانقسام السياسي وعودة التظاهرات ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتقاذف المسؤوليات حتى قبل أن يُعلن وقف إطلاق النار.
رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان حمّل نتنياهو المسؤولية قائلاً: “إن نتنياهو يعرّض وجودنا للخطر، ويقودنا إلى الهلاك”، محذّراً من أنه “إذا كان هذا وضعنا في مواجهة حماس، فما هو موقفنا في مواجهة حزب الله وإيران؟”. بينما وصّف رئيس حزب “أمل جديد” جدعون ساعر الهزيمة بالقول: “إن قرار وقف إطلاق النار هو بمثابة فشلٍ سياسيٍّ مخزٍ سندفع ثمنه في المستقبل”.
لا قرار بالذهاب إلى حرب في لبنان
شهدت منطقة الحدود اللبنانية – الفلسطينية طيلة فترة معركة “سيف القدس” مسيراتٍ شعبيةً حاشدة، شارك فيها الكبار والصغار، الرّجال والنساء، في رسالة تضامنٍ واضحة مع الشعب الفلسطيني. لم يكتفِ اللبنانيون والفلسطينيون الذين وصلوا الجدار الإسمنتي الفاصل برفع الرايات وإطلاق الهتافات، بل تسلّق
بعضهم الجدار وحطّم كاميرات المراقبة وزرع رايات الحركات والدول المقاومة في عيون جنود الاحتلال الذين اختبأوا خلف متاريسهم. وارتقاء الشهيد محمد طحان خلال التوترات في بلدة العديسة اللبنانية، قبالة مستعمرة المطلّة، أثناء عبوره إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، لم يُخِف أو يُحبط عزيمة الشباب، بل استمرّت الفاعليات وبزخمٍ أكبر.
هذا التظاهرات الحاشدة وإطلاق صواريخ أكثر من مرّة من الأراضي اللبنانية باتجاه الداخل المحتل، لم يجرّ المقاومة اللبنانية إلى الانخراط في المعركة، إلّا أنّه زاد الضغط على الاحتلال الذي كان يواجه الفلسطينيّين على أكثر من جبهة.
من الواضح أنه لم يكن هناك قرار بالدخول في مواجهة مباشرة مع “اسرائيل” في هذا التوقيت لحسابات سياسية واستراتيجية لدى حزب الله، ولأن المقاومة في غزة كانت تمسك بزمام الأمور محققةً انتصاراً واضح المعالم في وجه الاحتلال الذي كان يعاني على أكثر من جبهة في فلسطين المحتلة، من غزة إلى القدس والضفة الغربية، إلى المدن والبلدات المحتلة عام ١٩٤٨.
فليس خيار “الحياد” الذي صدحت به بعض الحناجر في لبنان مؤخراً هو ما منع حزب الله من الضغط على الزّناد، بل هي جملة حساباتٍ تبدأ بالأوضاع الاقتصادية الخانقة التي يرزح تحتها اللّبنانيّون، ولا تنتهي عند مفاوضات العودة إلى الإتفاق النووي في فيينا.
مفاوضات فيينا أولوية لدى الولايات المتحدة وإيران
الأكيد أن الإدارة الأميركية الحالية لا تريد مزيداً من التوترات في منطقة الشرق الأوسط، بل هي تحاول الانسحاب منه تدريجياً لتتفرغ لما تصنّفه على أنّه أولويات الرئيس بايدن، أي مواجهة الصين وروسيا والعودة إلى الاتفاق النووي. فرغم أن بايدن لم يتّخذ موقفاً صارماً يمنع العدوان الاسرائيلي الأخير في بداياته، إلّا أنّه صعّد من ضغوطه على نتنياهو شيئاً فشيئاً، كون أجندة سياسته الخارجية لا تتضمن حالياً التعامل مع أيّ توتّرٍ جديد في الشرق الأوسط. كل ذلك في ظل انقسام واضح داخل الحزب الديمقراطي الذي ينادي التيار التقدمي اليساري فيه بالدفاع عن حقوق الانسان وعدم تقديم التّأييد المطلق لـ “إسرائيل” التي لا توفّر إجراماً إلّا وترتكبه، مع الإقرار بأن لا إمكانية لإحداث تغيير جذري في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية.
يضاف إلى ذلك أن جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في الشرق الأوسط تهدف لتثبيت التهدئة التي تريدها الولايات المتحدة ليس على الجبهة الجنوبية (غزة) فقط، بل على الجبهة الشمالية (لبنان) أيضاً. فأيُّ تطورٍ عسكريّ جديدٍ على أيٍّ من الجبهات سينعكس سلباً على مفاوضات العودة للإتفاق النووي، أو أقلّه سيجمّدها، وهو ما لا تريده إدارة بايدن، وكذلك إيران.
آلاء ترشيشي